إنَّ السعادة والتعاسة إرادة ٌعقلية وإدارة ٌعملية!
فإذا أردتَ بفكرك أن تسعد سعادة كاملة، ستسعد تمامًا بإذن الله، لأنك ستبحث عن ذلك وستُدير حياتك بأسبابه، وسيُعينك ربك بكل تأكيد، لأنه وَعَدَ كلّ مجتهد، ووعده الحق الصادق الأكيد، بتحقيق اجتهاده وزيادة، في قوله: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ) (محمد: 17).
وإذا أردتَ أنَّ تسعد سعادة منقوصة ! نلتها كما أردت! بسبب أسبابها المنقوصة التي اتخذتها!!
وإذا لم ُترد السعادة ولم تستهدفها ولم تعرف طريقها ولم تعمل لها، لن تنالها!!
بل إذا أردتَ أن تتعس! واتخذتَ أسباب ذلك!تعِست! ... وسيمنعك ربك من التعاسة لفترة ٍبرحمته وفضله حتى إذا رأي منك أنت إصرارًا عليها فسيتركك وشأنك (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) (الصف: من الآية 5)!!.. فمن يُصِرّ علي إرادة الزيْغ والبُعد عن الخير ويسير في هذا الطريق ولا يستجيب لخيريّ ربه ودينه لا بُدّ حتما أن يزيغ كما يُثبته الواقع ونراه!
إنَّ هذا هو الذي يُفهَم من توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم لنا حين زار أعرابيًّا ليعوده ويُؤازره ويُواسيه ويُقوّيه في مرضه قائلاً: "لا بأسَ طهورٌ إن شاء الله"، فإذا به يردّ عليه بقوله: بل هي حُمّيَ تفور في جوف شيخ كبير حتي ُتزيره (أي تجعله يزور) القبور، فقال صلى الله عليه وسلم مُنبّها ًومُحَذرّاً: "فنعَم إذاً" (رواه البخاري ومسلم).
فهو صلى الله عليه وسلم يعلمنا أنَّ أمور الحياة تكون حسبما يراها كل فرد، بل وحسبما يصنعها هو بفكره وعمله التابع له! بإرادته وإدارته! كما يؤكده قوله تعالى: (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) (الإسراء: من الآية 7).
فمَن يرَيَ حَدَثًا بمنظار ٍأسود، أو يسمع قولاً كذلك، ويعمل بمقتضاه، سيَتعس! ومَن يراه أو يسمعه من وجهة نظر ٍحسَنةٍ، ويعمل أيضا بمقتضيَ ذلك، سيَسعد! .. وهذا في كل شئون حياته ... فهو صلى الله عليه وسلم يُذكرّ أنه حتي في حال المرض والذي هو أمرٌ استثنائيّ غير دائم سيستفيد المسلم إنْ عاجلاً ًأو آجلاً ًخبراتٍ وعلاقاتٍ نافعةٍ مُسْعِدَة له ولغيره في الدنيا والآخرة، لكنه إنْ رآه بفكره مُهلِكًا ومُتعِسًَا ومُنهِيًَّا لحياته، َفنعَم إذا!!! فالأمر كما يرَى ويريد ويسعىَ، إن خيرًا فخيرًا سيجد وإنْ شرًا فشرًا !!
يقول الإمام القاري موضحًا هذا ومؤكدًا عليه عند شرحه للحديث في "مرقاة المفاتيح" "باب عيادة المريض" : "إذا أبيتَ إلا اليأس وكفران النِعَم، فنعَم إذًا يحصل لك ما قلت، إذ ليس جزاء كفران النعمة إلا حرمانها، قال الطيبي: يعني أرشدتك بقولي لا بأس عليك، إلى أنَّ الحُمَّيَ تطهرك من ذنوبك فاصبر واشكر الله تعالى فأبيتَ إلا اليأس والكفران فكان كما زعمت وما اكتفيت بذلك بل رَدَدَتَ نعمة الله.
ثم بعد الإرادة، فإنَّ السعادة والتعاسة إدارة ! أي أسباب ونتائج ! فمن اتخذ أسباب السعادة بتمامها، سَعِدَ سعادة تامَّة، ومن اتخذ بعضها نال جزءًا منها، ومن لم يتخذ منها شيئًا افتقدها ولا شك .. بل ومن اتخذ أسباب الشقاء، شقيَ بالتأكيد!
يقول تعالي مُنبّهًا لذلك: " مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ " (النحل: 97)، قال الإمام ابن كثير في تفسيره: ".. الحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أيّ جهة، عن ابن عباس: هي السعادة .. .. فقد عمِلَ وقالَ صالحًا، فحَصَدَ صلاحًا وراحة وسعادة! هكذا بكل بساطة وعُمْق وسرعة ووضوح! كالمُعادَلة الرياضية!
فكلّ مَن يعمل بأخلاق الإسلام كلها، لا بُدّ حتمًا سينال السعادة كلها، كما يُفهَم من قوله تعالي: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ 57 قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ" (يونس: 57، 58)، والذي قال فيه الإمام السعدي في تفسيره: ".. إذا حصل الهدي .. حصلت السعادة والفلاح والربح والنجاح والفرح والسرور .. "، وجاء في "أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري: ".. ابتغوا النور الذي يحمله وتداووا به واهتدوا بنوره تشفوا وتكملوا عقلاً وخلقًا وروحًا وتسعدوا في الحياتيْن معا .."
وهذا ما يؤكده عموم قوله تعالي: " هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ " (الرحمن:60)، والذي قال فيه الإمام الرازي في تفسيره: ".. هل جزاء مَن أثبت الحُسْنَ في عمله في الدنيا إلا أن يُثبت الله الحُسْنَ فيه وفي أحواله في الدارين .."، ويضيف إليه الإمام ابن عطية في تفسيره "المحرر الوجيز" : ".. وعدٌ وبَسْط ٌلنفوس جميع المؤمنين .."